اقرأ وارتقِ: من دهشة الطفل إلى منارة تعليمية
حين لاحظ طفلٌ في الخامسة من عمره ثغراتٍ في منهج تعليم القراءة، بدأت الحكاية.
طفلٌ صغير جلس ذات يوم يتأمّل كتيّبًا لتعليم قراءة القرآن الكريم، وكلما تقدَّم في دروسه، زادت دهشته وأسئلته. وعلى صغر سنه، لاحظ بثاقب فطرته ثلاث ثغرات واضحة في المنهج:
- غياب التدرّج؛ إذ يبدأ الدرس الأول بالمدود مباشرة، ثم تظهر الحروف المقطّعة في الدرس الثالث، وفي الرابع تأتي الحركات الثلاث دفعة واحدة!
- تركيبات لغوية غير عربية لا تعكس طبيعة اللغة المقصودة بالتعليم.
- إخراج مشوّش؛ تبدأ فيه بعض الدروس من منتصف الصفحة أو نهايتها، مما يُربك الفهم.
مرت الأعوام وكبر الطفل. وفي عام 1974م، أصبح معلّمًا مساعدًا وهو لا يزال طالبًا، لما ظهر عليه من نبوغ مبكر. حتى أُسند إليه تدريس البنات في قاعة واحدة مع البنين، في زمنٍ كانت الثقة والكفاءة مقدّمتين على الشكل.
رؤية مبكرة لحل مشكلة تعليم القراءة
في عام 1988م، عُيّن معلّمًا لتحفيظ القرآن الكريم في السعودية. وهناك، أدرك أن حفظ القرآن لا يثمر دون تأسيس سليم في القراءة. فقد كان يُضطر إلى تلقين الطلاب الآيات عشرات المرات، لأنهم لا يجيدون فكّ الحروف أو ربطها، فضلًا عن التشكيل. وكان الطالب يحفظ دون فهم، كما لو كان ببغاءً.
قدّم اقتراحًا للمسؤولين بأن يُقدَّم تعليم القراءة على التلاوة، لكن اقتراحه قوبل بالرفض، لأن الكتيّب المقترح – كما قيل – موجَّهٌ للأعاجم، ولا يناسب طلاب العرب.
وفي عام 1994م، عُيِّن معلما في وزارة الأوقاف بدولة الكويت، وعضوًا بلجنة تطوير التعليم. أعاد طرح اقتراحه بتأسيس القراءة أولًا، فجاءه الرد:
“إن أردتَ تطويرًا، فهاتِ منهجًا يقبله طلاب العرب.”
ولادة المنهج: اقرأ وارتقِ
حينها قرّر أن يكتب المنهج بنفسه. بدأ في عام 1994م، وظل يعمل عليه عقدًا من الزمان، يُجرّب ويعدّل، ويبحث ويطوّر، حتى اكتمل في عام 2004م. وكان يؤمن – بيقين لا يخالطه شك – أن هذا المنهج سيكون يومًا ما معتمدًا في المؤسسات الرسمية.
لكنه لم يجد الدعم في محيطه؛ بل واجه سخريةً من زوجته آنذاك، التي قالت له:
“أنت وكتابك! تُدرّسه في المؤسسات الحكومية؟ في الكويت؟!”
ولم تكتفِ بذلك، بل حاولت منعه من مواصلة العمل، فاختار أن يُكمل الطريق بمن يُعينه، لا بمن يُثبّطه. وتزوّج من أخرى تشاركه الهم، وتدعمه في رحلته.
تضحيات في سبيل التعليم
منذ عام 1994م، كان معلمًا في الكويت، وساكنًا في بيت مخصص للأئمة والمؤذنين. وفي عام 2006م، صدر قرار بإخلاء المساكن لكل من ليس إمامًا أو مؤذنًا. ولتكريمه، عرضت عليه الوزارة وظيفة مؤذن كوظيفة ثانية وراتب إضافي ليبقى في السكن المجاني، فرفض في البداية. لكنه – بناءً على إصرار الوزارة – جرّب الجمع بين الوظيفتين لمدة ثلاثة أشهر.
غير أن الأذان والمهام المرتبطة به شتّتت تركيزه وأربكت جدوله، فقرّر ترك وظيفة المؤذن، رغم ما كانت توفره من دخل إضافي وسكن مجاني، ليتفرغ كليًا للتعليم، مؤمنًا بأن الرسالة التعليمية تستحق التضحية.
وبذلك خسر السكن المجاني، واضطر إلى استئجار بيت صغير رغم ضيق الراتب، فلم يكن يتبقى له في نهاية الشهر سوى عشرين دينارًا فقط، لكنها – كما وصفها – كانت “أطهر عشرين دينارًا في حياته”، لأنها كانت ثمنًا لحريته الفكرية، ووقته، ورسالة العمر التي نذر لها حياته.
لكن من يترك شيئًا لله، يعوّضه الله خيرًا.
ففي بداية الشهر، اتصل به وكيل لإحدى شركات السيارات، وطلب منه تدريس أبنائه كل جمعة. وحين سأله عن الأجر، قال المؤلف:
“أنا معلّم قرآن، ولا آخذ أجرًا.”
فقال له الوكيل:
“لك راتبك الحكومي نفسه، فقط دَرّسهم كل جمعة.”
وصدق الله العظيم:
“ومن يتق الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب.”
السرقة… والمفاجأة
حين عرض المؤلف كتابه على أحد الإخوة الكويتيين للمساعدة في طباعته، رحّب، لكنه اشترط عرضه على شيخٍ من دولة عربية مشهورة بالفصاحة.
طلب الشيخ أن يكون شريكًا في التأليف ليزكيه للطباعة. وعندما رفض المؤلف، أجرى تعديلات طفيفة، ثم طبع المادة في ثلاثة كتيّبات، وبدأ بيعها باسمه!
وعندما اشتكى المؤلف للمشايخ، أقرّ الشيخ بأخذ المادة، ووعد بذكر ذلك في المقدمة، لكنه لم يفِ فسكت المؤلف، وفوّض أمره إلى الله.
الاعتماد الرسمي للمنهج
رغم كل ما حدث، طبع المؤلف نسخًا من كتابه على نفقته، ووزّعها مجانًا. فوصلت نسخة إلى أحد كبار مسؤولي وزارة الأوقاف، فاستدعاه فورًا وقال له:
“نريد هذا الكتاب منهجًا لتأسيس القراءة وعلاج صعوبات التعلّم. نحتاج فقط لفهم طريقة التطبيق.”
فأجابه المؤلف بدورة تدريبية مكثفة استمرت 15 ساعة، شرح فيها المنهج تفصيلًا.
أُرسلت المسودة إلى علماء من مختلف البلاد العربية، واستغرق التقييم أربع سنوات من التحكيم العلمي والمراجعة الدقيقة.
وفي عام 2008م، تم اعتماد المنهج رسميًا، وأصبح مقررًا في مراكز تعليم القرآن الكريم والمدارس، وتحول إلى مرجع متكامل لتأسيس القراءة ومعالجة صعوبات التعلم في العالم العربي.
مرحلة الانتشار والنجاحات (من 2008م فصاعدًا)
ما إن تم اعتماد المنهج رسميًا في وزارة الأوقاف بالكويت عام 2008م، حتى بدأت رحلة الانتشار المباركة. فقد لمس الجميع فاعلية المنهج وسهولة تطبيقه. وانتشر تدريجيًا في أغلب محافظات الكويت، ثم طلبته المؤسسات التعليمية خارجها، وبدأ تصدير المعرفة.
وفي عام 2010م، اعتمدت مملكة البحرين منهج اقرأ وارتقِ ضمن مراكز تعليم اللغة العربية التابعة لوزارة العدل والشؤون الإسلامية، ليصبح المنهج الأساسي لتعليم القراءة وتأسيس النشء.
التكريم والتقدير
ثمار التدريب وبناء الكفاءات
واصل المؤلف جهوده التعليمية والتدريبية في الكويت والبحرين ودول الخليج، فدرّب مئات المعلمين والمعلمات والمشرفين والموجهين، ونفّذ ورشًا تخصصية داخل المدارس ومراكز تعليم القرآن، ووضع دلائل تطبيقية، ونشرات تدريبية، ومقاييس تحصيلية تراعي الفروق الفردية، وتدعم الطلبة من ذوي الصعوبات التعليمية.
وكان له الفضل – بعد توفيق الله – في اكتشاف مواهب تربوية من المعلمين والمعلمات، تحوّل بعضهم إلى مدربين معتمدين في المنهج، قادرين على نشره وتعليمه وتطويره داخل بلادهم.
نحو مؤسسة تعليمية عالمية
تحوّل منهج اقرأ وارتقِ من كتيّب تجريبي صغير، إلى مؤسسة تعليمية تحمل هوية واضحة، ورؤية تربوية، ورسالة علمية.
وأصبح المنهج اليوم يُدرّس في عدد من الدول، ويُستخدم في برامج:
- تأسيس القراءة.
- علاج ضعف القراءة وصعوبات التعلم.
- تعليم العربية لغير الناطقين بها.
- تأهيل معلمي ومعلمات رياض الأطفال.
كما توسّعت المؤسسة لتقدم خدمات:
- التدريب التربوي والتأهيل الأكاديمي.
- الاستشارات التعليمية.
- تصميم المقاييس والاختبارات التشخيصية.
الختام: من قلب طفل إلى عقل أمة
بدأت القصة بدهشة طفل صغير لم يتجاوز الخامسة، وانتهت بمؤسسة تعليمية تُعلِّم الأطفال والمعلمين، وتُصلح مناهج الدول.
بدأت بسؤال بريء، وانتهت بمنهج معتمد.
كانت الطريق مليئة بالعقبات، والسخرية، والسرقة، والفقر… لكنها كانت كذلك مليئة بالثقة بالله، والعمل، والصبر، والإخلاص.
وها هو اقرأ وارتقِ اليوم، ليس مجرد اسم، بل نداءٌ للأمة:
“اقرأ… وارتقِ بها.”
قصة عجيبة، تكاد لا تُصدّق… لكنها حقيقية. رواها صاحبها بنفسه، ذلك الطفل الذي رأى في الكتيّب شيئًا ناقصًا، فوهبه الله بعد سنينٍ منهجًا كاملًا.